الحجاب .... قول فيه مختلف
13- آيات الحجاب ... أسباب النزول ومعطيات عصرنا
محمد عابد الجابري
آيات الحجاب ثلاثة: واحدة في سورة الأحزاب وهي أسبق نزولا، واثنتان في سورة النور. وكتمهيد لفهم الظروف الاجتماعية التي نزلت فيها هذه الآيات، نقول:
كان عمران القرى في كثير من المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية التي تمتد من الخليج شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا –وضمن ذلك مكة والمدينة (يثرب قبل الإسلام)- يتميز بطرق يسقف بعض أجزائها. وفي الأجزاء المسقوفة، ويسمى الواحد منها سقيفة، جرت عادة سكان هذه القرى أن يجلس الرجال في مجالس على جانبي الطريق للاستراحة والاستظلال من القيظ وتبادل الأخبار وما أشبه. وكانت المرأة لا تغادر منزلها إلا لقضاء حاجة ضرورية. وإذا هي مرت في مثل هذه الطرق اتجهت إليها الأبصار، وربما تعرضت للغمز واللمز في مجالس الشباب. ولما كانت المنازل في هذا النوع من العمران لا تشتمل على مراحيض، فإن النساء كن يخرجن لقضا الحاجة في الخلاء، وكن يصطحبن معهن إماءهن كمرافقات في الطريق. ويقول المفسرون إن بعض نساء النبي والصحابة قد تعرضن لمثل هذه التحرشات، فشكون ذلك إلى النبي ، فكان ذلك سبب نزول قوله تعالى: "يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ، ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيما" (الأحزاب 59).
أما الهدف من "إدناء جلابيبهن عليهن" فواضح، وهو "أن يعرفن"، أي أن يميز الرجال والشبان المتحرشون بين النساء الحرائر وبين الإماء المرافقات لهن، فلا يتعرضوا للحرائر بسوء.
وأما "الجلباب" فقد اختلف فيه المفسرون، ويرجع هذا الاختلاف إلى تنوع "الحجاب" السائد في ذلك العصر، صنف عربي الأصل، وصنف فارسي الأصل، وصنف آخر موروث عن اليونان والرومان الخ. ومن هنا قال بعضهم إن على المرأة الحرة أن تلف جسمها في إزار (حايك) ولا تترك إلا فتحة بحجم العين ترى من خلالها طريقها، وقال آخرون تلفه إلى جبهتها، وقال آخرون تترك الوجه كله، وذكروا حديثا نبويا يبيح للمرأة إظهار ذراعها إلى النصف الخ، وواضح أن الخطاب في الآية المذكورة هو للنساء دون الرجال.
بعد الآية المذكورة جاءت "سورة النور"لتعمم الخطاب على المؤمنين والمؤمنات أولا، ولتوضح ثانيا أن المقصود هو إخفاء الزينة الباطنة دون الظاهرة، ولتحدد ثالثا من هم الذين يجوز للمرأة أن تظهر أمامهم بزينتها الباطنة. فقال تعالى: "قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ (كالأبله والعجز جنسيا) أَوِ ٱلطِّفْلِ (الغلمان) ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ (لم يتعرفوا عليها بعد اصغرهم) وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ (كالخلخال) وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (سورة النور30-31).
أما عن قوله تعالى" وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ"، فيقول المفسرون: إن الخمار ثوب تضعه المرأة على رأسها كله أو بعضه وتتركه يتدلى على ظهرها، وأما "الجيوب" فهي جمع "جيب" وهو فتحة العنق في القميص قد تطول إلى الصدر وقد تقصر، وقد اختلفوا هل المطلوب من المرأة أن ترخي الخمار على وجهها وصدرها أم تلفه من وراء ظهرها وتحت إبطها ليتغطي به الجيب على الصدر. واختلف المفسرون أيضا في تحديد الفرق بين "الزينة الظاهرة" و"الزينة الباطنة". فمنهم من حصر الزينة الظاهرة في الثياب فقط تلقيه المرأة على جسمها كله، ومنهم من جعل الزينة الظاهرة تشمل الوجه والكفين، ومنهم من أضاف الذراع أو نصفه وذكروا في هذا حديثا نبويا. كان منهم من اعتبر الضرورة فأباح للمرأة أن تبدي من أعضائها حسب الحاجة، كما هو الحل في الفحص الطبي والتوليد وعندما تعجن الخبز أو تغسل الثياب أو تتحدث مع الرجال. وقد صاغ ابن عطية ذلك بعبارة عامة فقال: "ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تُبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدّ منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. فـ«ما ظهر» على هذا الوجه مما تؤدّي إليه الضرورة في النساء فهو المعفوّ عنه".
وإذا نحن اعتبرنا مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات" كما فعل ابن عطية، وفعل غيره من الفقهاء في الاستثناءات المذكورة، جاز لنا أن نتساءل: لماذا لا نلحق النساء العاملات والمعلمات والموظفات والقاضيات والجنديات والتلميذات والطالبات الخ بالاستثناءات المذكورة لكونهن جميعا يقمن بحركات "فيما لابد منه أو إصلاح شأن".
على أن الرخصة هنا –باصطلاح الفقهاء- لا تتطلب اللجوء إلى مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات"، ذلك لأن أجزاء أساسية من النازلة التي استوجبت الحجاب لم تعد قائمة في عصرنا:
- فمن جهة لم تعد النساء اليوم يقمن في بيوتهن ولا يخرجن إلا لقضاء "الحاجة" في الخلاء، فالحاجة تقضى داخل البيوت في مراحيض خاصة لذلك.
- ومن جهة أخرى لم تعد هناك في عصرنا إماء ولا عبيد، فالمرأة تخرج لوحدها ولا حاجة لها إلى من تتميز به لتعرف كامرأة حرة تستوجب احترام الرجال والشباب!
- ومن جهة ثالثة تخرج المرأة اليوم للعمل أو للمدرسة ولا يؤذيها أحد. وربما يصح القول إن السفور هو الذي يحمي المرأة اليوم من نفسها ومن الرجال، وليس الحجاب. ومما يستحق الذكر في هذا الصدد أن شيخ الإسلام بالمغرب المرحوم محمد بلعربي العلوي أحد كبار علماء القرويين في الثلاثينات والأربعينات ومؤسس الحركة السلفية الجديدة بالمغرب، وأحد القادة المكافحين ضد استعمار الفرنسي سئل في أواخر الأربعينات عندما أخذ السفور ينتشر ويجد تشجيعا من الحركة السلفية الوطنية، سئل عن رأي الدين في تخلي المرأة المغربية المسلمة عن الحجاب التقليدي (الجلابة) فقال: الأفضل اليوم أن تخرج المرأة بدون حجاب حتى تعرف في الشارع : زوجة من هي؟ وابنة من هي؟ وأم من هي؟ فلا يقترب أحد منها بأذى ولا تستطيع هي نفسها أن تتستر عن أي شيء يشين أخلاقها ويمس دينها... فالسفور اليوم هو أقرب من الحكمة، التي من أجلها كان الحجاب، من الحجاب نفسه.
- ووجه آخر يمكن طرح مسألة الحجاب في إطاره، وذلك قوله تعالى : "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الآية (النحل 90). والعدل في الموضوع الذي نحن بصدده يقتضي التسوية بين الرجل والمرأة في الغض من البصر، وهذا جانب تحدثنا عنه في المقال السابق. وأما الإحسان فمعناه فعل الشيء على أحسن وجه وأفضل صورة، سواء تعلق الأمر بالعبادات أو بالمعاملات أو بالعاديات من الأقوال والأعمال. وما من شك في أن المرأة تحسن عملها بصورة أكثر وأتقن، إذا هي تحررت مما يحول دونها ودون ذلك، كالحجاب الذي فيه تشدد ومغالاة بدعوى تطبيق أوامر الشرع في حين أن شرع الله –أعني الإسلام- قائم على اليسر " يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ" والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وفي هذا السياق نرى من الضروري أن نؤكد أمرين اثنين:
1- أما الأمر الأول فهو أن ما نقوله هنا لا يعني تعطيل الحكم الإلهي ولا إلغاءه ولا المس بقدسية. فالخطاب القرآني أبدي، ولا يخضع في وجوده أو سيريان مفعوله لتطور الأحول عبر القرون ولا لتغير العوائد مع تغير العصور. ولكن الخطاب القرآني حقيقة ومجاز، خصوص وعموم، ناسخ ومنسوخ، أوامر ومقاصد، ألفاظ ومضامين الخ. وغني عن البيان القول إن الألفاظ إنما هي وسيلة للتعبير عن القصد الإلهي، والقصد الإلهي في آيات الحجاب واضح، وهو ما يفهم من غض الأبصار والتزام الحشمة والوقار وعدم التبرج تبرج الجاهلية. أما كيفية ذلك فتتدخل فيه أمور كثيرة، على رأسها تغير العادات، وأيضا إرادة المرأة وحريتها وما يرتضيه ضميرها. وهذا كله يندرج في مجال الأخلاق. فلا ذنب ولا لوم على المرأة إذا هي لبست اللباس العصري أو اللباس التقليدي، فليس اللباس ذاته هو الذي يحمي من "مقدمات المحظور"، لأن المحظور نفسه يمكن أن يحصل في عصرنا بالحجاب الذي يلف سائر جسم المرأة ولا يحصل بالسفور. والذين يعرفون دخائل الأمور، يعرفون ذلك جيدا. "والله بما تصنعون خبير"!
وأما الأمر الثاني فهو أننا نتحدث عن مسألة الحجاب بعيدا عن كل خلفية أخرى غير الرغبة في الاجتهاد في فهم النص. أما عندما يكون وراء الأمر أشياء أخرى فالموقف يختلف. فاتخاذ الحجاب رمزا دينا للدفاع عن الهوية، كما هو الحال اليوم في فرنسا، شيء، واللجوء إلى الحجاب بسبب الفقر أو لستر عاهة شيء، وشيء آخر تماما استعماله كشأن ديني يستغل لأغراض سياسية...
ويبقى قبل وبعده حكم الشرع في من تخلى عن الحجاب الذي من نوع "معهود العرب" والذي نزلت فيه آية الحجاب؟
والجواب أن الأمر الشرعي في مسألة الحجاب لا ينص على وعيد ولا على عقاب. وموضوع الأمر والنهي في القرآن موضوع واسع عريض، يملأ صفحات وصفحات في كتب الأصوليين ويختلف تناولهم له باختلاف مذاهبهم الكلامية والفقهية. وبالتالي فهو يحتاج إلى قول مفصل.